القدس المحتلة - خاص بقدس الإخبارية : منذ عام 2014 وهي تحلم بتلك اللحظة، كانت تمشي في ذلك المكان وتبكي عليه، كيف وصل حاله إلى هذا الحال، كيف لا يعمره المصلون بشكل دائم حتى لو كان مغلقاً. لم يكن هذا حلمها وحدها، بل حلم كل من يعرف المكان ويحترق قلبه على إغلاقه.
خلال الأعوام الماضية لم يكن مصلى “باب الرحمة” ومحيطه مكاناً يتوافد إليه المصلون كباقي مصلّيات المسجد الأقصى المُبارك، حتى قام عدد من المرابطين والمرابطات الفلسطينيين بإحياء هذا المكان، بطرقهم الخاصّة، حتى استطاعوا في نهاية المطاف أن ينسجوا قصّة نصرٍ مشرّف وفتحٍ عظيم.
أحداث سبقت الفتح ..
بالعودة قليلاً إلى الأحداث التي حصلت عام 2018، وبالتحديد خلال شهر رمضان ومع تمكّن أعداد كبيرة من الفلسطينيين من كافة الأراضي المحتلة من الدخول والصلاة في المسجد الأقصى، تم استغلال تلك الفرصة والقيام بحملة تنظيف واسعة، مركّزة على المنطقة الشرقية.
بابا “الرحمة” و”التوبة” كانا مغلقان منذ سنوات طويلة، وتوجد قربهما تلتان أُطلق عليهما اسما “تلة باب الرحمة”، و”تلة باب التوبة” تيمّناً بالبابيْن وهما عبارة عن تلّتين صغيرتين من أتربة وحجارة المسجد الأقصى، تشكّلتا في عهد الاحتلال الإسرائيلي خلال عمليات ترميم المصلى المرواني والأقصى القديم، ومنعت شرطة الاحتلال إخراج الركام من تلك المنطقة على مدار أكثر من 25 عاماً.
التفّ المصلون على القرار الإسرائيلي، وحوّلوا الحجارة التي كانت تملأ المكان، إلى سلاسل حجرية منظمة، تحيط بجنبات المسجد الأقصى، من خلال تشكيل مقاعد وطاولات من تلك الحجارة، بالإضافة إلى إحاطة أشجار الزيتون بها بشكل دائري، حتى غدت المنطقة معلماً جديداً في المسجد الأقصى.
وبالتزامن مع ذلك، أطلق نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسم “باب الرحمة إلنا”، وبدأ المصلون بالصلاة في المنطقة الشرقية، وأداء عباداتهم، إلى جانب الإفطارات التي عمّت المكان من قبل العائلات ومجموعات الشبّان.
هذا الأمر لم يُعجب شرطة الاحتلال ولا حتى المستوطنين، فهذا المكان من المخطط أن يكون لهم ضمن التقسيم المكاني، فشرعت الشرطة بحملة تخريب لما قام به المصلون، والمستوطنون بدأوا بحملاتهم التحريضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
منذ ذلك الوقت بدأت الملاحقات لكلّ من تواجد وصلّى واعتكف في المنطقة الشرقية، وكانت التهم التي تُنسب إليهم وجودهم في منطقة “باب الرحمة” و”عرقلة عمل الشرطة”، و”منع الزيارات أو عرقلتها” (أي الاقتحامات).
الشرارة ..
لم تحسب شرطة الاحتلال أن بالقفل والسلاسل الحديدية التي وضعتها على الباب الواقع على رأس الدرج المؤدي إلى مبنى “باب الرحمة” مع بداية عام 2019 ستُشعل غضب المصلين وستصل إلى نهاية لا تُريدها أبداً.
صلّى الفلسطينيون على مرقبة من الباب، وما إن انتهوا حتى أزالوا ما تم وضعه، واستمرت الأحداث بالتصاعد شيئاً فشيئاً من خلال الاعتداء على المصلين بالضرب والقنابل والرصاص، واعتقالهم وإبعادهم، حتى استطاعوا يوم الجمعة في الـ22 من شباط 2019 فتح مصلّى “باب الرحمة” المغلق منذ عام 2003.
مدلين عيسى تقول لـ”قدس الإخبارية” إنه منذ عام 2014 كانت كلّما شدّت رحالها من منزلها في الداخل المحتل، باتجاه المسجد الأقصى، كانت تتوجّه على الفور إلى منطقة “باب الرحمة” تصلّي ركعتين وتتلو القرآن وتتأمّل هذا المكان متسائلة عن حُلمها متى سيتحقّق، وهل سيكون النصر قريباً.
وتُضيف أنه كان يؤلمها أن العديد من المسلمين لا يعرفون هذا المكان، ولا يزورونه، وكأنّه ليس جزءاً من المسجد الأقصى، وكانت تطلب من أي شخص يتواجد في المكان سواء كان طفلاً أو عجوزاً أن تصوّرهم لتخفّف عن نفسها قليلاً وتقول “إن هناك من يعرف هذا المكان .. والحمد لله”.
قبل الأيام التي سبقت فتح مصلى “باب الرحمة” كانت عيسى تريد أن تعيش كل لحظة من اللحظات التي كانت تسبق حلمها الذي بدأ يتحقّق من خلال توافد المصلين للمنطقة، أدائهم الصلوات جميعها في الباحات، تلاوتهم للقرآن، الأناشيد الدينية التي كانت تعلو بأصوات الشبان والرجال، ولأنها لا تريد أن تضيّع أيٍ من تلك التفاصيل لم تغادر القدس ولم تُعد إلى بيتها.
كانت عيسى من الفوج الأول الذي دخل مصلّى “باب الرحمة” يوم فتحه، حيث كان الشعور لا يوصف، وقالت إنه “مكان تاريخي مُغلق منذ سنوات، لا نستطيع الاقتراب منه ولا الصلاة فيه، وفجأة ندخله فاتحين نصلي فيه شكراً لله الذي رزقنا بهذا الفتح العظيم، وعسى أن يكون الفتح الأكبر قريباً”.
اقمع أيها المحتل أكثر .. ونحن سنُقابلك بالرّباط والتّصدي
تقول نهلة صيام إن ما عُرف بـ”الجكر المقدسي” بات يُضرب به المثل، ونصرُنا في هبّة “باب الأسباط” كان حافزاً كبيراً لمواصلة التحدي، والوصول إلى الهدف شيئاً فشيئاً، لا باب الرحمة فحسب، بل النصر العظيم للمسجد الأقصى والقدس وكافة أراضينا.
وتُضيف في حديثها لـ”قدس الإخبارية” أنه رغم الاعتقالات التي شهدتها القدس في “هبّة باب الرحمة” والأيام التي سبقت فتح مُصلّاه، لم تردع شباناً آخرين عن إكمال المسير، صلّوا في الباحات العلوية ثمّ قرّروا كسر الحصار والنزول للساحة السفلية قبل أن تباغتهم قوات الاحتلال الخاصة من كل الجهات لتحاصرهم وتضربهم وتعتقلهم.
وتقول: “كم كان يومًا عصيباً على كل من كان هناك، مشهد الشبان وهم يحاولون تفادي الاعتقال والضرب (..) وتسلّق سور باب الرحمة الذي يتجاوز طوله خمسة أمتار..”.
وتبعاً للمعادلة المقدسية نفسها، كما أسمتها صيام، احتشدت في اليوم التالي أعداد مضاعفة عن اليوم السابق، وحيث اعتُقل الشبّان تم تأدية الصلوات (الساحة السفلية)، واستمر الحال حتى جاء يوم الجمعة الذي تم فيه كسر قيود بوابات مبنى “باب الرحمة” نفسه.
التسابق على خدمة المصلى
تقول الشابتان عيسى وصيام أنه بعد فتح المصلى، بدأ المصلون يتسابقون لخدمة المسجد، من كنسٍ ومسحِ الأتربة المتراكمة طوال سنوات إغلاقه، وشراء سجادات الصلاة الفردية بعدما منع الاحتلال إدخال سجاد المصلى القبلي القديم (بعد 3 شهور تم فرشه).
وتُضيفان أن الأمر وصل إلى مدّ خط مياه للوضوء والشرب، وتحضير الشاي والقهوة ووضع الماء في المصلاة وبعض السكاكر والحلويات في أوقات الأعياد، وكلّما كانت خدمة المصلى أكبر وتوافد المصلين إليه أكبر، كان هذا يغيظ المستوطنين أكثر فأكثر.
المسجد الأقصى بالنسبة للجميع هو المكان المقدّس لكن في هذا المكان بالذات (باب الرحمة) سرٌّ عظيم قد يكون ذلك بسبب إغلاقه على مدار 16 عاماً ممتالية، تقول عيسى.
بعدما أصبح مصلّى “باب الرحمة” بيت المصلين الثاني، يُعاود الاحتلال محاولاته انتزاع النّصر الذي تحقّق لهذا المكان من خلال تشديد إجراءاته وتفتيش المصلين والتمركز على مقربة من بوابة المبنى الخارجية، مع استمرار سلسلة التعدّيات والاعتقالات والاستدعاءات للتحقيق على خلفية التواجد في المنطقة الشرقية وأداء العبادات، قبل مرور العام الأول على ذكرى فتح المصلى الشهر القادم.